تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأخبار

مقالة: دور القاضي في تقديم الأدلة في الأنظمة القضائية

فبراير 20 2023

يُقسّم الفقه القانوني الغربي الدور الذي يقوم به القاضي في تقديم الأدلة إلى نظامين رئيسيين وهما: نظام التمحيص القضائي والمعروف باللغة الإنجليزية بمسمى (Inquisitorial System)، والمشابه أيضا لمذهب الإثبات الحر وفقا للفقه القانوني لمعظم الدول العربية، ونظام المغارمة والمعروف باللغة الإنجليزية بمسمى (Adversarial System)، والمشابه أيضا لمذهب الإثبات المقيد وفقا للفقه القانوني لمعظم الدول العربية. ويتسم النظام الاول بأنه نظام قضائي يضطلع فيه القاضي بدور فعَّال وإيجابي في تقصي الحقائق وتمحيص وقائع الدعوى من خلال استعراضه للأدلة وتقديرها واستجواب الشهود، بينما يتسم النظام الثاني بأنه نظام قضائي يقف فيه القاضي موقف الحياد من الدعوى، حيث يقتصر دوره على تلقي ما يقدمه أطراف النزاع من أدلة في الدعوى، وتقدير قوة كل دليل وفقا لقوته التي حددها له القانون، ومن ثم الحكم في الدعوى بناء على اقتناعه الذي تكون لديه من الادلة المقدمة من الخصوم، إذا ليس من عمل القاضي ان يساهم في جمع الأدلة أو يستند إلى دليل تحراه بنفسه. وقد يختلط الأمر على البعض في التمييز بين مفهوم عدم التحيّز لأي من الخصوم ومفهوم حياد القاضي. فعدم تحيّز القاضي لأحد الخصمين هو أمر مفروغ منه في أي نظام قضائي، بينما المقصود بحياد القاضي أن يقف القاضي موقفا سلبيا من كلا الخصمين فيما يتعلق بإثبات الدعوى، حيث لا يقضي القاضي إلا بما يعرض عليه الخصوم من أدلة في الدعوى المعروضة عليه، ولا يتجاوز ذلك باستجماعه لأي أدلة أخرى، بل يقتصر دوره على ما يعرض عليه الخصوم منها، وأن ينطلق اقتناعه دائما من اثباتهم فيما قدموه من أدلة.

ويسود نظام التمحيص القضائي في النظام القضائي الفرنسي وفي الأنظمة القضائية لبعض الدول التي تأثرت بالنظام القانوني اللاتيني او المدني (Civil Law System) مثل فرنسا وألمانيا واسبانيا وبعض الدول العربية، بينما يسود نظام المغارمة القضائي في إنجلترا وبعض الدول التي تأثرت بالنظام القانوني الإنجليزي أو النظام القانوني العام (Common Law system) والذي التي يستمد جذوره من التراث القانوني الإنجليزي مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا. ولعله من المفيد أن نشير إلى أهم الخصائص التي تميّز النظام القضائي اللاتيني أو المدني عن نظام القانون العام، حيث يتميز النظام اللاتيني بأن دور القاضي يقتصر فيه على تطبيق القانون لا وضعه، بمعنى أن القاضي إذا أصدر حكما في قضية ما بناءً على تفسيره وتأويله لنصوص القانون، فإن هذا الحكم لا يكون له قوة الالزام على غيره من القضاة بشأن أي قضية جديدة تحمل نفس الموضوع. وعلى ذلك، فإن الاحكام القضائية في هذا النظام تعد مصدرا تفسيريا غير ملزم للقاضي وسواء كانت الاحكام صادرة من محكمة من نفس الدرجة التي يباشر القاضي فيها عمله أو من محكمة أعلى درجة منها، هذا من حيث المبدأ، إلا أن معظم محاكم الدول التي تأخذ بهذا النظام تلتزم بقضاء وقرارات المحاكم العليا التزاماً أدبيّاً وليس قانونيّاً. أما في نظام القانون العام، فإن أهم ما يميز هذا النظام أن السوابق القضائية تعد مصدراً رسمياً ملزماً للقاضي لاستخلاص القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على النزاع المعروض عليه، بمعنى أن القاضي ملزم بإتباع السوابق القضائية الصادرة عن المحاكم الأخرى ذات نفس درجة محكمة القاضي أو عن المحاكم الأعلى درجة من محكمة القاضي. وعلى ذلك فإن للقاضي السلطة الكاملة لإصدار حكم جديد تماماً بشأن قضية لم يتم معالجتها في نصوص القانون أو لم يتم تناولها من قبل في الاحكام القضائية السابقة، ويقوم الحكم القضائي الجديد الذي أصدره القاضي مقام التشريع بشأن أي قضية جديدة تحمل نفس الموضوع.

وقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن الاختلاف بين النظامين قد أخذت في التقلص، وذلك لاستعارة كل من النظامين أدوات ومنهجيات من النظام المقابل، كما لوحظ أن العديد من الدول التي تتبنى النظام القانوني والقضائي اللاتيني أو المدني، قد قامت بإنشاء محاكم تجارية دولية متأثرة بالنظام القضائي المستمد من نظام القانون العام (Common Law system)، باعتبار أن العديد من الشركات الدولية تفضل الاستثمار في الدول التي تتبنى هذا النظام القضائي نظرا لمعرفة تلك الشركات بإجراءات التقاضي وفقا لهذا النظام.

وفي دولة قطر، فقد تأثّر النظام القانوني فيها بالنظام القانوني اللاتيني، بالإضافة إلى تأثّر العديد من النظريات المنصوص عليها في القانون المدني بالشريعة الإسلامية. كذلك فقد أخذ المشرع القطري بالمذهب المختلط فيما يتعلق بدور القاضي في تقديم الأدلة والذي يجمع بين الإثبات المطلق والإثبات المقيد، فأعطى المشرع للقاضي دورا إيجابيا في قانون المرافعات المدنية والتجارية عند تقدير الأدلة التي لم يحدد لها القانون قوة معينة كالشهادة والقرائن القضائية من جهة، بينما عمد المشرع إلى تقييد حرية القاضي في العديد من النصوص المتعلقة بتحديد طرق الإثبات من جهة أخرى.

إلا أن الدولة قد حرصت عند انشائها لمحكمة قطر الدولية، وباعتبارها أحد عناصر الجذب للاستثمار في مركز قطر للمال، على أن تكون إجراءات المحكمة ذات صبغة دولية، وأقرب إلى الإجراءات المتبعة في النظام القضائي المستمد من نظام القانون العام (Common Law)، وذلك على اعتبار أن الشركات الدولية معتادة على التقاضي في المحاكم التجارية الدولية وفقا للنظام الأخير، وحتى تساهم المحكمة من خلال قيامها بدورها القضائي في تعزيز القدرات التنافسية لمركز قطر للمال.

وعلى ذلك، فقد تأثرت القواعد الإجرائية المعمول بها في محكمة قطر الدولية بالقواعد الإجرائية المعمول بها في المحاكم التجارية في إنجلترا وويلز وبمبادئ نظام المغارمة (Adversarial System)، وقد أدى ذلك بدوره إلى اتباع محكمة قطر الدولية تقريبا نفس نهج سير إجراءات الدعوى المعمول به في محاكم انجلترا وويلز. كذلك فقد تأثرت طريقة الاستدلال المنطقي لقضاة محكمة قطر الدولية وأصبحت مشابهة لقضاة المحاكم التجارية الانجليزية في القضايا المماثلة.

إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال بإدراج محكمة قطر الدولية تحت لواء النظام القضائي الانجلوسكسوني أو نظام القانون العام (Common Law)، حيث إن المحكمة غير ملزمة قانونياً بتطبيق السوابق القضائية الإنجليزية أو السوابق القضائية الصادرة في الدول ذات النظام القضائي الانجلوسكسوني أو العام على الدعاوى المنظورة أمامها، كما أن المحكمة غير ملزمة قانونا باتباع المبادئ القانونية التي توصلت إليها تلك السوابق القضائية في القضايا المستقبلية المشابهة. وعلى ذلك، فلا يكون للأحكام الصادرة في الدول ذات أنظمة القانون العام حُجيّة في القضايا المشابهة المنظورة في محكمة قطر الدولية. إلا أنه في الواقع العملي، فإن الخصوم المتقاضين أمام محكمة قطر الدولية غالبا ما يستدلون إلى الأحكام في القضايا المشابهة في محاكم الدول ذات أنظمة القانون العام، وذلك لتسليط الضوء على النهج التي اتبعته تلك المحاكم في التعامل مع تلك القضايا، إذ قد تسترشد المحكمة بهذه القضايا لتحديد كيفية التعامل مع القضية المنظورة أمامها. وقد تشير محكمة قطر الدولية من وقت لآخر في حيثيات أحكامها إلى الاحكام الصادرة في دعاوى مشابهة في دول أخرى على سبيل الاسترشاد، إلا أن المحكمة غير ملزمة بإتباع تلك الأحكام كما أشرنا سابقا، حيث إن المحكمة تطبق على الدعوى المنظورة أمامها التشريعات المحددة ذات العلاقة، وتتوصل إلى الأحكام بناء على استدلالها وعقيدتها المستمدة من فهمها للوقائع وملابسات الدعوى. كذلك، تضع محكمة قطر الدولية أحكام محكمة التمييز القطرية موضوع إكبار وتقدير، وقد أشارت محكمة قطر الدولية في العديد من أحكامها إلى الاحكام والمبادئ التي أقرتها محكمة التمييز في قضائها.

وفي الختام، نرى أن معرفة الاختلاف بين نظامي التقاضي المعمول بهما في الدولة هو أمر ضروري ومهم لكافة العاملين في الحقل القانوني بالدولة، لما لذلك من أثر مهم على الإجراءات المتبعة أمام المحاكم في الدولة وعلى الإجراءات المتبعة أمام محكمة قطر الدولية.

Services

Services

Decorative Pattern

أدوات الوصول